سنغادر الديار 1
--
سنغادر الديار
خرجتُ باكرًا أجري وأهرول في الحارة، كنت أبحث عن أحدهم نتراشق الضحكات كما كنا نفعل سابقًا. فجأة، واجهني صديقي أسامة، ابن جارتنا سعاد، الذي يسكن بجوار منزلنا. ناديت عليه: "أسامة! أسامة!" لكنه هرول بعيدًا، ولم أعرف ما الذي حدث له. توقفت قليلًا، نظرت حولي، ولم أرَ أحدًا في الحارة. كنت وحيدة. قررت العودة إلى المنزل.
وصلتُ وأنا ألهث... فإذا بصوت والدي يفاجئني قائلاً: "سنغادر الديار..."
كانت كلماته واضحة... الرحيل.
ما كان مني إلا أن هرولت إلى وجه الحنان، إلى أمي، أستمد من وعيها وفهمها تفسيرًا لهذه الكلمات. صرخت: "أمي، ماذا؟"
ركضت نحوها، أحاول نزع الخوف الذي ملأ قلبي منذ ليلة البارحة، منذ أصوات الدبابات والصواريخ التي ضربت الحارة وهدمت بعض البيوت. ما زال ذلك الصوت يدوي في أذني... إنها الطائرات التي تأتي وتذهب سريعًا، وصرخات الأطفال، وحشرجة الأمهات الممتلئة بالخوف والرعب.
وصلتُ إليها وارتميت في حضنها، احتضنت فخذها، فأمي شاهقة الطول، وأنا أمامها أبدو كطفلة في السابعة من عمرها.
ربّتت على رأسي بحنانها الغامر... حنان كالبئر الذي لا ينضب. نحتاج إليه لنرتوي كلما أعطشتنا الحياة، ويحتوينا كلما داهمنا الخوف والقلق.
قالت لي بصوتها الدافئ: "لا تخافي، يا صغيرتي. هلا ساعدتني في جمع الأغراض من بقايا تلك الغرف المبعثرة؟"
كان المنزل في حالة فوضى عارمة. قطع الأثاث محطمة، والكتب ممزقة، والملابس متناثرة هنا وهناك. رأيت أبي واقفًا في الزاوية يحمل حقيبة قديمة، ينفض عنها الغبار كأنما يحاول إخفاء شعوره بالعجز. كان يحاول أن يبدو قويًا، لكن تعابير وجهه فضحته... عيناه كانتا مثقلتين بالحزن، وصوته مبحوحًا بالكلمات التي لم ينطق بها.
أمي، على الجانب الآخر، كانت تجمع بقايا ملابسنا، تطويها بحذر وتضعها في حقيبة صغيرة. كنت أراقبها وهي تمسح دمعة خائنة تسللت على وجنتها، وتحاول أن تخفيها بابتسامة باردة قالت : "لا بأس... كل شيء سيكون على ما يرام."
أما أنا، فقد كنت أقف وسط الغرفة الصغيرة، لا أعرف ما الذي أفعله. كنت أشعر بأن العالم ينهار حولي. حملت دميتي القديمة، التي فقدت أحد عينيها في ليلة القصف، وضغطت عليها بشدة وكأنها طوق النجاة الأخير في هذه اللحظة.
سألتهما بصوتٍ متقطع: "إلى أين سنذهب؟ هل سنعود يومًا؟"
لم يجبني أحد. كان الصمت ثقيلًا، كأنه يقول كل شيء.
أخذ أبي حقيبته ووقف عند الباب، ينظر إلى المكان وكأنه يودّعه للمرة الأخيرة. أمي لحقت به، تحمل الحقيبة بيد ودفتري المدرسي بيد أخرى. قبل أن تخرج، انحنت نحوي وهمست في أذني: "سأحملك ذكرياتنا، وأحمي قلبك، يا صغيرتي... لن ينكسر."
كان المنزل يفرغ شيئًا فشيئًا، وكل خطوة نحو الباب كانت تقتلع جزءًا من روحي. شعرت بأنني أترك قلبي هناك، بين الجدران، بين الألعاب المكسورة، بين الذكريات التي لن تعود.
غادرنا، لكنني كنت أعلم... روحي ستبقى هنا، تحوم حول المكان، تنتمي إليه مهما ابتعدت أجسادنا.
#منال_علي
---
تعليقات
إرسال تعليق